بين الغزو الثقافي وغياب الدور التربوي
يعد إعادة بعث روح الانتماء للقيم الوطنية أهم التحديات التي تواجه المجتمع الجزائري والمجتمعات العربية بصفة عامة، فالمطلوب هو ضمان تداول القيم المحلية بين الأجيال للاستفادة من ثورة المعلومات بصفة إيجابية تؤدي بالشباب إلى استهلاك المفيد دون أن يقوده الصراع بين الثقافة الدخيلة والثقافة الوطنية إلى تبني القيم المستوردة، وبناء على هذه المعطيات فإن الإشكالية المطروحة مفادها: كيف نحول دون حدوث تأثير عميق للقيم الوافدة في وسط الأجيال القادمة خاصة وأن المختصين يؤكدون أن مشكل الهوية،"الحرقة" والتأثر بالحياة الغربية ثالوث بدأ ينتشر ليهدد بتفكيك شخصية الشباب.
عدة أفكار سلبية باتت تطارد بعض الشباب لتهدد الشعور بقوة الانتماء إلى القيم الوطنية، وهو ما يعيد إلى الواجهة مسألة إبعاد الشباب عن مصادر الخطر التي لا تخدم سيرورة تداول القيم المحلية في زمن العولمة، وتعد قوارب الموت من أهم مظاهر الاستسلام لليأس جراء بعض المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والتأثر بمظاهر الحياة في ما وراء البحار.
كما أن هناك مظاهر أخرى لا تقل خطورة مثل ما حدث مؤخرا بثانوية عقبة بباب الوادي، حيث أقدم بعض الطلبة على وضع العلم الفرنسي بدل العلم الوطني، ضف إلى ذلك عدم الاحتفال بعيد الاستقلال الوطني وغيرها من الأمور التي تشير إلى ضعف الروح الوطنية، وبهذا الخصوص سألت "المساء" بعض المختصين فأجمعوا على أن الأمر يتعلق بمهمة تستدعي تجند جميع الهيئات المكلفة بشؤون الشباب، خاصة وأن الواقع اليومي ينذر بتراجع مسؤولية ربط الأجيال ببعضها البعض.. مؤكدين أن التغيير المنشود لا يجب أن يبقى في إطار الملتقيات، لأن إعادة بعث الثقافة المحلية بات يستدعي استهداف الشريحة المعنية مباشرة.
وفي هذا السياق ترى الأستاذة آيت حبوش مختصة في علم النفس العيادي أن الظاهرة تعكس حقيقة التداخل بين التنشئة والغزو الثقافي، هذا التداخل يكرسه حاليا عمل كلا الوالدين، إذ أدى هذا الأمر إلى تقليص مساحة التفاعل الاجتماعي ودور مراقبة الأبناء في ظل ضغوطات الحياة اليومية لاسيما في الوسط الحضري.
وتضيف المتحدثة أنه مقابل غياب رقابة الوالدين يستهلك الأبناء جزءا كبيرا من الوقت في مشاهدة القنوات التلفزيونية، وهو ما يؤدي إلى اكتسابهم للقيم الدخيلة التي لا أثر لها في الوسط الاجتماعي، يحدث هذا -حسب نفس المصدر- في الوقت الذي يحاول فيه الوالدان تعويض غيابهما عن المنزل بالماديات، كمصروف الجيب والهواتف النقالة. وهو نفس الأسلوب الذي تعتمده بعض الأمهات الماكثات بالبيت ممن يشعرن بعقدة النقص جراء عدم وثوقهن في الثقافة المحلية. وبناء على هذه المعطيات نشأ جيل يعاني من مشكل الهوية الذي يعد ضعف روح الانتماء إلى الوطن أهم أعراضه.
التنشئة الاجتماعية..معنى مجهول
ومن جهته يوضح الأستاذ عبد الكريم بوحفص، مختص في علم النفس، أن هذه المسألة تشير إلى حقيقة أن العديد من الأطراف الفاعلة في مجتمعنا تجهل معنى "التنشئة الاجتماعية"، فهذه الأخيرة أساسها المواطنة، أي الانتماء إلى جماعة معينة واحترام قواعدها، وعندما نبحث عما قام به مجتمعنا في هذا المجال لا نجد شيئا تقريبا.
المجتمع ككل - يقول الأستاذ - تخلى عن عملية التربية التي صارت محصورة في المدرسة، وحتى هذه الأخيرة ليس لها وجود فعلي في المجتمع، فهي موجودة كهياكل وقاعات، ولكن واقعها يطرح سؤالا مفاده: ما هو النفوذ المعطى للأستاذ في المدرسة؟ ذلك لأن بعض الأساتذة ـ مثلا ـ يلقون معارضة شديدة من طرف الأولياء عندما يقومون بدورهم التربوي.
وعلى صعيد آخر، يشير الأستاذ بوحفص إلى أن التطور الذي عرفته المجتمعات وظهور التكنولوجيات الحديثة أدى إلى تحسن المستوى المعيشي. وفي ظل هذه التطورات الحاصلة برزت عدة تناقضات في المجتمعات المتخلفة التي تشهد نموا مقابل هروب الأبناء منها، والذي تترجمه بعض المظاهر، فالسرقة و"الحرقة" ـ مثلا ـ تعبران عن الانفصال عن مجتمع لا يشعر فيه أفراده بالانتماء.
ويجرنا هذا الموضوع أيضا إلى القول إن المشكلة لا تنحصر في الأسرة التي تخلت عن دورها التربوي وأحالته على المدرسة فحسب، إنما كذلك في تهميش "النموذج"، فالمعروف هو أن "النمذجة" من أساليب التربية، لكن في الوقت الذي لا يحظى فيه النموذج في مجتمعنا بالمكانة اللائقة به، فإنه لم يعد يثير رغبة الأطفال في الاقتداء به.
أما الأخصائية الاجتماعية أسماء منصور، فتؤكد أن الشعور بالانتماء إلى الوطن مرهون بنمط التنشئة الاجتماعية وبالتالي دور الأسرة قبل كل شيء في غرس القيم الوطنية، حيث ينبغي غرس توابث الثقافة المحلية منذ الصغر لتكون بمثابة حصن يمنع الانبهار بالقيم الوافدة. لكن الملاحظ في هذا الصدد هو أن نمط التربية السائد في المجتمع يفتقر إلى الوعي بقيمة الوطن وضرورة الإخلاص له، فالجيل الناشئ بحاجة إلى من يوجهه، غير أنه لا يجد من يقوم بهذا المهام، خاصة وأن مجتمعنا يعاني من أزمة الاتصال التي اتحدت مع ضغوطات الحياة اليومية لتحول دون تمكن الأولياء والأساتذة من أداء هذا الدور الجوهري.
وعموما تعود المسؤولية على كافة الفاعلين الاجتماعيين الذين يتوجب عليهم تفعيل المؤسسات الاجتماعية لزيادة قوة الانتماء للقيم الوطنية ومواجهة الغزو الثقافي في آن واحد، حيث أن العديد من شباب اليوم يبدي تأثرا واضحا بنمط الحياة الغربية، ذلك لأنه يقارن بين وضعه ووضع غيره في البلدان الأخرى، مما يجعله محبطا ـ أضافت نفس المتحدثة ـ .